الأحد، 16 أكتوبر 2016

من الطارق؟

من الطارق؟
الموت هو الزائر بلا استئذان، فهو يأتي بلا موعد، فيسلبك الروح دون رضاك، خاف منه الصغير والكبير، القوي والضعيف، الغني والفقير، خاف منه السلف، ولم يعتبر منه الخلف.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: من الطارق؟! هذه الكلمات أسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأسأل الله جل وعلا أن لا يفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور، وأسأله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا الجمع الكريم أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجمعني وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الموت يزورك بلا موعد
أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟!- جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها.أمهلني دقائق، أرجع فأصلي لله ركعات، أسجد لله سجدة أتوب بها: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان.. يصيح.. جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً.حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه.. جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1]* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:2]. بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن..جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات.. انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة.
دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائقٌ وثواني
إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟ مسكين.. قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح.وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين.. كل هذا ذهب بلمح البصر.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] وصلت الروح إلى الترقوة والعينان تبصران، ولكنه لا يستطيع حراكاً كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]. من يداويه؟ من يعالجه؟ من يطببه؟ ما بال هذا الطارق لم يستأذني؟ ما باله جاءني بغتة؟ ما باله لم يخبرني حتى أرجع المظالم إلى أهلها؟ لِمَ لم يحدثني قبلها بفترة حتى أتوب؟ وقد كان كلما نصح وكلما وعظ: يا فلان! اتق الله، يا فلان! استقم على أمر الله، يقول: إن شاء الله قبل أن أموت. كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] المسكين تأكد أن الأمر انتهى، وعلم أن الدنيا قد انقضت، حياة الزوجة والبيت والأثاث، والسيارات والمراكب، الجلوس في الدواوين إلى آخر الليل، الأفلام والمسلسلات، المباريات على الأرصفة، الأرصدة الضخمة، كلها ذهبت وولت بلمح البصر، وصارت أغلى أمنية له أن يرجع للدنيا ليركع ركعة، وغاية ما يتمنى أن يؤخر لحظات ليتوب إلى الله، ولكن كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا[المؤمنون:100] كلمة يقولها كما كان يقولها في الدنيا، كلما وقع بمصيبة قال: ربي لئن كشفت عني المصيبة تبت، فلما انكشفت رجع على حاله، كذب على الله جل وعلا مرات ومرات، كلما ضاقت به الأمور قال: رب لئن فرجتها عني لأرجعن إليك ولأتوبن، فلما انفردت الأمور رجع إلى ذنوبه ومعاصيه كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. يسمع الزوجة تقول له: لمن تتركنا؟! ولمن تخلفنا يا فلان؟ تذهب وتتركني مع أولادك الصغار، فمن يربيهم؟ من يطعمهم؟ من يسقيهم؟ يا فلان! أجبني، والبنت الصغيرة تقول له: يا أبتِ لِمَ لا تجيب؟ يا أبتِ من يوصلني إلى المدرسة؟ يا أبت! من يشتري لي اللعبة التي وعدتني إياها؟ والابن يقول له: يا أبتِ! ألم تعدني قبل ساعاتٍ وقبل لحظات بسفرٍ إلى بلد كذا؟ ألم تخبرني أنك سوف تأخذني غداً إلى هذا المكان؟ يا أبتِ لم لا تجيب؟ وهو جثة هامدة، لم يبق فيه إلا عينان تبصران، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28]. ثم غسل وكفن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30] ثم صلي عليه وحمل على الأعناق، فإن كان فاجراً، يقول وهو محمول على الأعناق: يا ويلها، يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يا ويلها ما صلت! يا ويلها ما خشعت! يا ويلها ما تابت! يا ويلها ما ندمت! يا ويلها كانت تصر على المعاصي والذنوب! كانت تقلب بصرها في الحرام، يا ويلها طالما مشت إلى الفجور، وإلى المعاصي، وإلى الحرام والخنا والزنا! يا ويلها كانت تخطط للذنوب والحرام، يا ويلها أين تذهبون بها؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30].فإذا به يوضع وتخيل -عبد الله- فلعل هذه الليلة التي تسمعني بها هي الأخيرة! [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]].

أخي الكريم: هل رأيت مصرعاً كهذا؟ هل رأيت رجلاً كهذا الرجل؟ كان يأمل ويحلم، ويخطط، ولكن الأجل كان أقرب من حلمه.الحسن البصري رأى رجلاً يصرع فيموت، فرجع إلى البيت، فقيل له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء رحمك الله! قال: [كلوا عشاءكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]. تخيل نفسك -يا عبد الله- على الفراش، تتنازع الروح! بل تخيل بحادث سيارة، لعلك قلت للأهل: سوف أذهب وأشتري لكم الأغراض ثم آتي إلى البيت، ولكنه الحادث الأخير، تخيل وأنت ذاهبٌ وخلفت الصلاة خلفك، وتركتها وضيعتها، ذاهبٌ إلى أين؟ لتشتري الحرام، أو لتجلس مع أصحاب السوء، أو لتذهب إلى الملاعب والملاهي، تاركاً خلفك الصلاة والمؤذن ينادي، فإذا بملك الموت ينتظرك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. عمر بن عبد العزيز، كان في كل ليلة يجلس ويجمع حوله الفقهاء والعلماء، فيتذاكرون الموت والدار الآخرة، فيبكي ويبكون وكأنما جنازة مرت بينهم، أوكأنهم شيعوا جنازة. الموت، هادم اللذات -يا عبد الله- لا يستأذنك ولا يخبرك، بل يأتيك بغتة، بل وتخرج نفسك فلتة.عبد الله! لن تدرك أن تتوب إلا إذا وفقك الله، لا تقل: غداً أتوب، ولا تقل: في العام القادم، ولا تقل: إذا اعتمرت، ولا تقل: إن شاء الله إذا حججت، ولا تقل: إذا تزوجت، ولا تقل: إذا فعلت كذا وكذا أتوب إلى الله، وما يدريك أنك سوف تدرك هذه الأيام.
تفكر في مشيبك والمآبِ     ودفنك بعد عزك بالتراب

إذا وافيت قبراً أنت فيه     تقيم به إلى يوم الحسابِ

وفي أوصال جسمك حين تبقى     مقطعة ممزقة الإهابِ

فلولا القبر صار عليك ستراً     لأنتنت الأباطح والروابي

خلقت من التراب فصرت حيا     وعلمت الفصيح من الخطابِ

فطلق هذه الدنيا ثلاثاً     وبادر قبل موتك بالمتابِ

نصحتك فاستمع قولي ونصحي      فمثلك قد يبل على الصوابِ

خلقنا للممات ولو تركنا     لضاق بنا الفسيح من الرحابِ

ينادى في صبيحة كل يومٍ     لدول الموت وابنوا للخرابِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] كم من الناس من فضحه الله؛ كان يتظاهر أمام الناس بالصلاح، وسيماه سيماء المتدين، ولكنه للأسف بينه وبين نفسه معصية يصر عليها! كان إذا جاء إلى البيت يغلق على نفسه البيت ويطفئ الأضواء ويرتكبها، وإذا خاطبته نفسه قال: الله غفور رحيم، والمسكين ما كان يدري أن ملك الموت قد دخل عليه في تلك اللحظة وقبض روحه واستل نفسه من بين جنبيه.

اسمعوا إلى هذا الرجل الذي كان يصلي، وكان مع الصالحين، ولكن ضعفت نفسه، وفتر إيمانه، وقل دينه، فصار لا يحافظ إلا على الصلاة، ويرتكب كثيراً من المعاصي والذنوب، انظر كيف مكر فمكر الله به، جلس يوماً مع أصحابه أصحاب السوء، فقالوا له: يا فلان! ما رأيك أن نذهب إلى بلاد كذا؟ قال: معاذ الله! ولا زال في القلب دينٌ وإيمان، قال: معاذ الله لا أذهب معكم، فلا زالوا به يراودونه، يا فلان! تعال معنا ولا تفعل شيئاً من الحرام، تعال وتمتع ولا ترتكب شيئاً من الإثم، قال: لا لن أذهب معكم، فلا زالوا به -أصحاب السوء- حتى أقنعوه بأن يسافر معهم.
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] غره بالله الشيطان، فسافر إلى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يذهب أصحابه يسهرون على الحرام والخمر والنساء، ومعاقرة الحرام، وكان يمكث في غرفته لوحده، ولا يخرج معهم، ولا يرتكب الحرام معهم، فتقاسموا بينهم، ومكروا مكراً، وقالوا: فلان لا يرتكب الحرام معنا لا بد أن نوقعه معنا في الحرام.
كيف؟
جاءوه في تلك الليلة الحمراء، في ذلك اليوم المشئوم، فدخلوا عليه، وأدخلوا عليه العاهرة الداعرة، وأغروها بمال أن تراوده على نفسها، ثم أغلقوا الباب عليه، فلا زال يردها وتراوده، ويدفعها وتغريه، ويمتنع وتشهيه، فإذا به في لحظة ضعف سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45] وفي لحظة ضعف وقع عليها فزنى بها، فلما زنى فإذا بالطارق يدخل غرفته واستل روحه، وقبض الله روحه، يبعث على ما مات عليه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57].

عبد الله! لا تقل: لا أحد يراني، وسوف أفعلها وإن شاء الله أصلي الفجر وينتهي الأمر، وما يدريك أنك تدرك وقت الفجر؟ وما يدريك -يا عبد الله- أن الله سوف يؤخرك بالتوبة؟
اسمع -يا عبد الله- إلى حالك بعد أن تموت، وبعد أن تخرج الروح!
فلو أنا إذا متنا تركنا      لكان الموت راحة كل حيٍ

ولكنا إذا متنا بعثنا     ونُسأل بعدها عن كل شيء
نعم. ترى جسداً لا حراك فيه، ولكن الروح اسمع ما الذي سوف يحدث لها؟ من الذي يدفنه؟ إنه أحب الناس إليه، بل أقربهم إليه من يسرع في دفنه، ومن يسرع في حثو التراب على وجهه، بل يتقرب الناس بدفنك في التراب، ثم بعد دقائق لا أحد يمكث على قبرك، وبعدها بلحظات نُسيت يا عبد الله! زوجتك بعد أيام أو بعد شهور تتزوج غيرك، وأولادك لا يسألون إلا عن الميراث، وأبوك رضى بقدر الله، هي الدنيا.. لقد جرب غيرها من المصائب، نسيك بعد أيام، أتظن -يا عبد الله- أنهم سوف يعكفون على قبرك يؤنسونك ويلاطفونك ويحادثونك؟! لا يا عبد الله، اسمع ما الذي سوف يجري عليك؟ وما الذي سوف يحدث لك؟ اسمع إن كنت غافلاً أو لاهياً؛ صاداً عن ذكر الله.
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ     وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتبُ

وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلة     وأنت على الدنيا حريصٌ معذبُ

تباهي بجمع المال من غير حله     وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ

أما تذكر الموت المفاجيك في غدٍ     أما أنت من بعد السلامة تعطبُ

أما تذكر القبر الوحيش ولحده     به الجسم من بعد العمارة يخربُ
لعلك الليلة تدخله، لعلك لن ترى شمس الغد، لعلك -يا عبد الله- لن ترجع إلى البيت الآن، لعل هذه الكلمات الأخيرة التي تسمعها الآن، ما يدريك؟ لعل الملك الآن يطرق هذه الغرفة.

عبد الله! لا تقل: لما أرجع سوف أتوب، لا تقل: بعد نهاية هذه المحاضرة، الآن الآن تب واندم، ولتدمع العين، وما يدريك لعلها اللحظات الأخيرة
أما تذكر القبر الوحيش ولحده     به الجسم من بعد العمارة يخربُ
الجسم الجميل الذي كان يقف أمام المرآة الساعات الطوال يحسنه ويجمله، وكان يتطيب ويغتسل، ولا يرضى بقذارة على جسمه، بعد أيام وبعد لحظات إذا بالدود ينهشه، إذا به ينتن، بعد أيام لو نبشت القبر لا تتحمل رائحته. يقول أحد الصالحين:
أما تذكر اليوم الطويل وهوله     وميزان قسط للوفاء سينصب

تروح وتغدو في مراحك لاهياً     وسوف بأشراك المنية تنشبُ

تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ     فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ
أرجو منك -يا عبد الله- وأنت تسمعني أن تتخيل نفسك! وأن تتمثل أنك أنت الموصوف.
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ     فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ

وغمضت العينان بعد خروجها     وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ

وقاموا سراعاً في جهازك يحضروا     حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا
وغاسلك المحزون.. لعله أخ ولعله أبوك ولعله خليلك..
وغاسلك المحزون تبكي عيونه     بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ

وكل حبيبٍ لبه متحرقٌ     يحرك كفينِ عليك ويندبُ

وقد نشروا الأكفان من بعد طيها     وقد بخروا منشورهن وطيبوا

وألقوك فيما بينهن وأدرجوا     عليك مثاني طيهن وعصّبوا

وفي حفرةٍ ألقوك حيران مفردا     تضمك بيداءٌ من الأرض سبسبُ

إذا كان هذا حالنا بعد موتنا     فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ

وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ     به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ

وهولٌ وديدانٌ وروعٌ ووحشة     وكل جديدٍ سوف يبلى ويذهبُ

فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه     فهادم لذات الفتى سوف يقربُ

وقولي إلهي أولني منك رحمة     وعفواً فإن الله للذنب يذهبُ

ولا تحرقن جسمي بنارك سيدي     فجسمي ضعيفٌ والرجا منك أقربُ

فما لي إلا أنت يا خالق الورى     عليك اتكالي أنت للخلق مهربُ
وصلِّ إلهي كلما بر شارقٌ على أحمد المختار ما لاح كوكبُ

يقول ابن عباس رضي الله عنهما عندما قرأ قول الله وبكى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً [مريم:84]: [آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك]فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً [مريم:84]. عبد الله! قبل أن أختم حديثي معك، إياك إياك أن تحسن الظن بنفسك، وإياك إياك أن تقول: أصبت الفردوس الأعلى، أو نجوت من النار.فهذا عمر كان يخاف على نفسه النفاق، وهذا عمر بن عبد العزيز كان يبكي عندما يمر بالقبور وينظر إليها.وهذا أبو بكر لما رأى الطير قال: [يا ليتني كنت طيراً مثل هذا، يموت ولا حساب ولا عذاب].وهذا عثمان الذي اشترى الجنة ثلاث مرات بماله، يقول: [والله لو كنت بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيهما أصير لتمنيت أن أكون رماداً].أما أبو عبد الله محمد بن المنكدر فقد بكى حتى أشفق عليه أهله فقالوا له: لمَ تبكي يا أبا عبد الله؛ أمات عليك أحد؟ أقتلت نفساً؟ بكى، ولم يجبهم بسبب بكائه فأرسلوا إلى صاحبه أبي حازم، فقالوا له: إن صاحبك أهلك نفسه بالبكاء؛ فأتِ إليه وخفف عنه، فجاءه وقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟! قال له: يا أبا حازم! يبكيني قول الله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كان يحتسب أنه من أهل الخير، ولكن للأسف؛ رياءٌ في رياء، ولكن للأسف؛ ملئ القلب بالنفاق، ولكن للأسف كانت عنده معاص يصر عليها، فختم الله له حياته بها.نعم ارج الله ولا تيأس من رحمته، ولكن اندم على ما مضى، واعزم على ألا تعود إلى حياتك الماضية، وقل: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] اقدم إلى الله جل وعلا، وتب إليه ولتدمع العينان.عبد الله! إلى متى وأنت تصر على المعاصي والذنوب؟ إلى متى وأنت تقول: إن ربي غفورٌ رحيم أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16].إلى متى -يا أخي الكريم- تسمع الأذان وتولي؟ إلى متى -يا عبد الله- تقوم من الفراش وتعلم أن الفجر قد أذن وحل، ثم ترجع إلى الفراش وتنام؟! إلى متى -يا عبد الله- تتظاهر بالصلاح، ثم إذا خلوت بمحارم الله انتهكتها، وتصر ولا تندم، ولا ترجع إلى الله جل وعلا.إلى متى يا عبد الله؟ إلى متى تتساهل بالصغائر حتى وقعت في الكبائر؟ إلى متى يا عبد الله؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

قبل أن أختم حديثي أقول: يا عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، الله الله بالسحر! الله الله بدموع قيام الليل؛ فإن سلفك كانوا من أعبد الناس، ومن أتقى الناس، فإذا حل الليل:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم     كم عابدٍ دمعه بالخد أجراهُ

وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم     لبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، إن كنت صاحب ذنب، صاحب معصية، فالله الله بالثلث الأخير؛ فإن الرب ينزل، ويبسط الرب يده جل وعلا ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه)!
الله الله بقيام الليل؛ فإنه مكفرةٌ للذنوب!
الله الله بالدعاء آخر الليل، وباستغفار السحر!
الله الله بآخر الليل! أنصحك ونفسي المقصرة -وكلنا مقصرون- وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




الأسئلة
نصائح لمن يريد التوبة
السؤال: أنا شابٌ أول مرة أصلي وأدخل المسجد وأحضر المحاضرة، فما نصيحتك لي؟ وآخرٌ يقول: شابٌ يرغب في الالتزام والتوبة، ولكن يخاف الانتكاسة، فما نصيحتك لهذا الشخص مع العلم أنه موجود؟
الجواب: أيها الأخ الكريم خذ هذه النصيحة واحفظها وطبقها: أولاً: حيلة الشيطان ألا تلتزم حتى لا تنتكس مفضوحة من بدايتها، وواضح لكل ذي عينين أنها خدعة إبليسية، وليست محكمة، فإنك -يا عبد الله- عاقل! وأنا أربأ بك أن تنخدع وراء هذه الشبهة، (لا تهتد حتى لا تضل) وهل الآن أنت في هداية؟! وهل تضمن نفسك -يا عبد الله- أن يؤخرك ملك الموت حتى تهتدي هداية لا ضلالة بعدها؟! وما أدراك أنك إذا اهتديت سوف تضل؟! ومن أخبرك بهذا؟ بل قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69] إذا دخلت في دين الله وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] ما يدريك لعل الله يفتح عليك، بل لعل الله يشرح صدرك، ما يدريك يا عبد الله؟ بل لعل هذه اللحظة وهذه الجلسة يكتب الله لك بها السعادة الأبدية السرمدية.واسمع إلى هذا الشاب، اسمع ولعلك أنت مثله، ولعل الله عز وجل يريد بك الخير: كان في يوم من الأيام من أهل الفتيات والنساء والمعاصي والذنوب وكان يجاهر بالمعصية، وفي يوم من الأيام كان في إحدى الطرقات يكلم فتاة، فجاءه رجلٌ يدعوه إلى الله وينصحه لله، ولعل حال ذلك الشاب كحالك فاسمع وانتبه ولك فيها عبرة.يقول الشيخ: لما اقتربت إذا بالفتاة تهرب، يقول: فجئت إلى هذا الشاب يقول: فوعظته نصف ساعة يقول: فلما انتهيت إذا عيناه تذرفان ويبكي، يقول: فأخذت رقم هاتفه، يقول: وبعد أسبوعين تذكرته فرفعت سماعة الهاتف في الصباح فقلت له: فلان قال: نعم.تذكرني؟ قال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً لهدايتي، الله أكبر! اهتديت من كلمة؟ من موعظة؟ نعم. فتح الله عليَّ فلا أفارق المسجد ولا القرآن، ولا ذكر الله جل وعلا، قال: اليوم سوف أزورك وسوف آتيك في المنزل، قال: حياك الله، يقول: فلما صليت العصر وكان موعدي معه بعد صلاة العصر قال: جاءني ضيوف -يقول الشيخ- فأخروني عن الموعد، فلما حل الليل قلت: لا بد أن أزوره فجئته في الليل، فطرقت الباب فخرج لي شيخٌ كبير، فقلت له: أين فلان؟ قال: أنت فلان؟ قال: نعم. أين فلان؟ يقول: وكان حزيناً، فقال لي: دفناه قبل ساعة، قلت: لا يمكن؛ اليوم كلمته بالهاتف ووعدته العصر قال: نعم لم يكن به بأس، صلى الظهر ثم تغدى وقال: أيقظوني لصلاة العصر، يقول: فجئنا نوقظه فإذا هو قد فارق الدنيا. عبد الله! انظر كيف أراد الله به الخير، إنها الأيام الأخيرة، إنها آخر ساعات الحياة، إذا به يلتزم ويهتدي ويقبل على القرآن، فقبض الله روحه، والأعمال بالخواتيم، فقال له: من أنت؟ قال: أنا أبوه، قال: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال له: تعرفت على ابنك قبل أسبوعين، قال: دعني أقبل رأسك، قال: ولم؟ قال: أنقذت ابني من النار.لعل هذه المحاضرة وهذه الجلسة -يا عبد الله- بها يبدل الله سيئاتك حسنات، وتنقلب الصحائف السود إلى صحائف بيض، والسيئات تنقلب الآن في هذه الجلسة بندم وصدق وتوبة صادقة، لا تخرج من هذا المجلس إلا وقد قيل لك: قم قد بدلت سيئاتك حسنات.ما يدريك -يا عبد الله- لعلك بعد أيام تصبح عابداً، بل داعية إلى الله جل وعلا؟! وكم من المغنين المطربين اليوم أصبحوا من الدعاة إلى الله جل وعلا، بل كم من النصارى عباد الصليب أصبحوا اليوم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا، كم وكم؟ ما يدريك -يا عبد الله- لعله يكون لك في أمة محمد شأن، ويكون لك دور؟ كما ضللت وأضللت، فإنك تهتدي، ويهدي الله على يديك خلقاً كثيراً. عبد الله أهدي لك هذه النصائح فاسمعها: أولاً: إياك إياك أن تفارق القرآن: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32] القرآن يثبت فؤادك، فاجعل لك ورداً كل يوم للقراءة وورداً للحفظ، إياك أن تخلط بين هذا وهذا، وإياك أن تهجر القرآن، فإنه حبلٌ بينك وبين الله، كل يوم لا بد أن تقرأ القرآن، بعد الفجر، أو آخر الليل، أو بين الصلوات، اعكف على كتاب الله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فكلما دعتك نفسك للرجوع، اقرأ آيات العذاب، ووصف جهنم: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43-44].كلما مللت من العبادة اقرأ عن أوصاف الجنة (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. كلما استهزأ بك أصحاب السوء وأهل الباطل والفساد، وسخروا منك؛ فاقرأ القرآن: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] من هو؟ أول رسول على وجه الأرض، إنه نوح عليه السلام: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ [هود:38] مِن قومه، ومِنْ أبناء عمِّه ومن أقربائه سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] ثبات الداعية إلى الله، ثبات العابد المستسلم لله جل وعلا، أنا الذي أسخر منكم، وأنا الذي أستهزئ بكم حقاً، أنتم في ضلال وغواية.اقرأ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30]. عبد الله! القرآن فيه شفاء لكل داء، كل مرضٍ من أمراض الشهوة علاجه في كتاب الله.ثانياً: يا عبد الله! (لعلك بأرض سوء فاخرج منها إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم) هذا شطرٌ حديث الذي قتل مائة نفس، فجاءه الناصح العالم فقال له: اهجر هذه المجالس، واهجر تلك المجموعة، واهجر هذه الرفقة، بل اهجر البلد كلها.أقول لك يا عبد الله: ذلك المجلس الذي دلك على الحرام، وذلك الصاحب الذي عرفك بالحرام، وتلك الديوانية التي كنت تجلس فيها على الحرام قاطعها لله جل وعلا، اهجرهم لله جل وعلا: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:28-29] اهجرهم لله جل وعلا، غادرهم وودعهم وداعاً لا رجعة فيه، لا ترجع إلا داعياً لهم إلى الله جل وعلا، لا ترجع إلا متسلحاً بسلاح العلم والعبادة والإيمان؛ برفقة صالحة تقتحم تلك المجالس، تقول لهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] تأتيهم لتدعوهم إلى الله جل وعلا، تخرجهم من عبادة الشهوات والفتن والملذات إلى عبادة رب الأرض والسماوات.عبد الله النصيحة الثانية: الرفقة الصالحة، واهجر كل رفقة سيئة.ثالثاً: يا عبد الله! عليك بالدعاء، ادع الله جل وعلا من قلبك، ولتدمع العينان وقل: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي إلى طاعتك.ادع الله وأنت موقن بالإجابة.ادع الله بخوفٍ ووجل، هذا نبيك عليه الصلاة والسلام كان يدعو بهذا الدعاء ويكثر منه، بل أبو الأنبياء وإمام التوحيد الذي كسر الأصنام، إبراهيم عليه السلام، هل يرد في قلبك شك أنه سوف يضل؟ لا. لا يرد في قلوبنا شك، كان يدعو الله فيقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] هو الذي كسر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وجذاذاً، يقول: يا رب! اجنبني وبني أن نعبد الأصنام، انظر الاستكانة لله، انظر التعلق بالله جل وعلا، انظر التبرؤ من الحول ومن القوة إلا بالله جل وعلا وحده.ادع الله بهذه الصورة، وبهذا التعلق بالله جل وعلا: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم اترك الكبار من المعاصي، واهجر الصغار منها، واعلم أن الصغيرة على الصغيرة على الصغيرة تجتمع حتى تملك القلب.
خلِّ الذنوب صغيرها     وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماشٍ فوق أرض     الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة     إن الجبال من الحصى



وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

أفضل الإيمان: الصَّبر والسَّماحة

روى أبو يعلى في "مسنده" (1854)، وابنُ أبي شيبة في "مصنَّفه" (11/33) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: أيُّ الإيمان أفضل؟ قال:  «الصَّبر والسَّماحة». وهو حديثٌ حسنٌ ثابتٌ عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما له من شواهد.
منها عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في مسنده (22717).
ومنها عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، رواه أيضاً الإمام أحمد (19435).
ومنها عن قتادة الليثي رضي الله عنه، رواه الحاكم في مستدركه (3/626).
وقد يقول قائل: لم كان الصَّبر والسَّماحة بهذه المنزلة العليَّة من الإيمان وبهذه المكانة الرَّفيعة من الدِّين؟
والجواب: أنَّ الصَّبر والسَّماحة خُلُقَان في النَّفس يَحتاج إليهما العبد في مقامَات الدِّين كلِّها وفي جميع مصالحه وأعماله، فلَا غنى له في شيءٍ من ذلك عن الصَّبر والسَّماحة، ولهـذا فإنَّ هذين الخُلُقين الفَاضلين يُحتاج إليهما في جميع مقامَات الدِّين.
ولهذا يقول العلَّامة ابنُ القيِّم - رحمه الله تعالى - في "مدارج السالكين" (2/160) - وقد أورد هذا الحديث، مُبيِّنًا مكانة هـذا الحديث العظيمة ومبيِّنًا أيضًا مدلوله ومعناه -: "وهذا من أجمع الكَلام وأعظمه بُرهانًا وأوعبه لمقامات الإيمان من أوّلها إلى آخرها؛ فإنَّ النَّفس يُراد منها شيئان:
* بذْل ما أُمِرت به وإعطاؤه، قالحامل عليه السَّماحة.
* وترك ما نُهيت عنه والبُعد منه فالحامل عليه الصَّبر". انتهى كلامه رحمه الله.
وقد سُئل الحسن البصري - رحمه الله تعالى - وهو أحد روَّاة هذا الحديث قيل له: ما الصَّبر وما السَّماحة؟ قال: "الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله - عز وجل -"؛ رواه أبو نعيم في "الحلية" (2/156).
وإذا تأمَّلت في هذا الحديث العظيم وفي دلالته العَظيمة تجد أنَّه حديثٌ جامع للدِّين كلِّه؛ لأنَّ المؤمن مأمور بأفعال وطَاعات وعبادات متنوِّعات، وهذه كلُّها تحتاج إلى سماحة نفس.
والسَّماحة في أصل مدلولها: السُّهولة واليُسر والسَّلاسة.
فمن كانت نفسه سلسلةً سهلةً سمحةً انقاد للأوامر وامتثل الطَّاعات ولم يتلكَّأ ويمتنع.
ومأمور أيضاً بالانكفاف عن المعاصي، والبُعْد عن المناهي، وتجنُّب المحرَّمات، وهذا يَحتاج إلى صبر.
والصبر: حبس النَّفس ومنعها، فإذا كان لا صبر عنده فإنَّ نفسه تنفلت ولا يتمكَّن من الامتناع عمَّا نهاه اللهُ عنه.
وبهذا يُعلم  أنَّ من لا صبر عنده لا يستطيع أن يقاوم، ومن لا سماحة لديه لا يستطيع أن يقوم.
نعم من لا صبر عنده لا يستطيع أن يُقاوِم النَّفس من رعونتها عند حلول البلاء، ولا يستطيع أن يقاوم النَّفس من انفلاتها عند دواعي الشَّهوات والأهواء.
ومن كان لا سماحة لديه لا يستطيع أن يقوم؛ لأنّ نفسه غير السمحة لا تنهض للقيام بالأوامر والاستجابة لداعي الطَّاعات، فإذا دُعيت نفسه إلى طاعة شحَّت، وإذا أُمرت بفضيلة تأبَّت، وبهذا يكون من المحرُومين.
فمن لا صبر عنده ولا سماحة لا يتأتى له النُّهوض بمصالحه والقيام بأعماله والامتناع عمَّا ينبغي عليه الامتناع منه.

فما أحوجنا إلى أن نكون من أهل الصّبر والسّماحة لتنهض نفوسنا قيامًا بطاعة الله - جلَّ وعلا -، ولتمتنع نفوسنا عمَّا نُهيت عنه من المحارم والآثام، والتَّوفيق بيد الله وحده لا شريك له، فنسأله سبحانه ونلجأ إليه وحده متوسِّلين إليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُليا أن يمنَّ علينا بهذا الإيمان العظيم: الصّبر والسّماحة.

في التذكير بنعمة الإسلام

                         في التذكير بنعمة الإسلام

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمَّه وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، أحمده على نعمه التي لا تزال تتوالى على العباد، وأشكره والشكر مأذونٌ بالمزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمَرَ بالمحافظة على نعمه بشكرها، ونَهَى عن تعرُّضها للزوال بكفرها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بَعَثَه الله ليُتمِّم مكارم الأخلاق، ويهدي لأقوم السبل، فكانت بعثته رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على الخلق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه ما تَعَاقَبَ الليل والنهار، وعلى آله وأصحابه البَرَرَة الأطهار.
أما بعد، أيها الناس:
اتقوا الله واشكروه على نعمة الإسلام.
أيها المسلمون:
بين أيديكم دينٌ عظيمٌ اختاره الله لكم ومنّ به عليكم ملَّة أبيكم إبراهيم، اشتمل على كل ما اشتملت عليه أديان الأنبياء فهو خلاصتها وخاتمتها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13 ].
ورسولكم خير رسول عرفته البشرية، فهو أفضل المرسلين وخاتم النبيين، به تمت عليكم النعمة، وانجلت به عنكم ظلمات الجهالة والشرك والظلم والعدوان، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164 ].
لقد وصَّاكم ربكم بالتمسُّك بهذا الدين والاقتداء بهذا الرسول، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153 ].
أيها المسلمون:
أمامنا طريق السعادة مفتوح؛ فلماذا لا نسلكه؟ أمامنا طريق الرُّقِيّ والفلاح واضحٌ؛ فلماذا نعدل عنه ونتركه، ونسلك طريق التأخر والشقاء والخسران؟!
أرأيتم أن دينكم قصَّر في إرشادكم إلى سبيل الفلاح فعَدَلتم عنه؟ هل قرأتم في تعاليمه ما يصدّكم عن جلائل الأعمال ومكارم الأخلاق فهَجَرتموه - كلا - إنه دين الله الذي يبقى طريقاً للسعادة والرقي إلى يوم يبعثون- ما من فضيلة إلا حث على التخلق بها. وما من رذيلة إلا حذر من قبحها وبيّن سوء عاقبتها، فما بال أكثرنا يسيرون على غير هدى، ويُقلِّدون الكفار فيما حرَّمه الإسلام ونهى عنه، قد أهمَلَ الكثير أمر الدين، واستهانوا بحقوقه، وعَبَثوا بواجباته، وتجرَّأوا على انتهاك حرمات الله، واستبدلوا ذلك بأخلاق الكفار وعاداتهم وتقاليدهم، فيا {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50 ].
أيها المسلمون:
إن المسلم الحقيقي لا يرضى بدينه بديلًا مهما كلَّفه الأمر، ومهما بذل من قبيل الكفرة له من المغريات، أو نَالَه منهم من الأذى، يبقى أمام كل فتنةٍ صلبًا في دينه مُتمسِّكًا بعقيدته.
فهذا بلالٌ مؤذِّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتدّ عليه أذى الكفار حتى إنهم ليطرحُونه على ظهره في رمضاء مكة الملتهبة بالحرارة، ويضعون الصخرة الثقيلة على صدره يريدون منه أن يترك هذا الدين، فيصمِد ويثبُت على دينه ويقول: أَحَدٌ أَحَد.
وهذا خُبَيْب بن الربيع يقول له مسيلمة الكذاب: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا إله إلا الله، فيقول له: قل: أشهد أن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، ثم يقطعه مسيلمة عضوًا عضوًا، ويأبى أن يقول: مسيلمة رسول الله، حتى لقِيَ ربه صابرًا مُحتسبًا.
وهذا عبد الله بن حُذافة السَّهْمي يأخذه ملك النصارى أسيرًا عنده، ويقول له: اتبعني وأشركك في ملكي فيأبى ويقول: لا أبغي بدين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم بديلًا، ثم يحمي ملك الروم النحاس بالنار، ويغلي القدور لتعذيبه، وعند ذلك يبكي عبد الله بن حُذافة فيطمع ملك الروم برجوعه عن الإسلام، ويقول: تتبعني وتترك دينك، فيرد عليه عبد الله - رضي الله عنه - بقوله: ما بكيت خوفًا على نفسي، ولكن ودِدتُ أن لي نفوسًا عدد شعري تعذَّب في سبيل الله فتدخل الجنة بغير حساب.
وهذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه سُميَّة وأهل بيته عُذِّبُوا في الله ليتركوا دين الإسلام، فصَبَروا على العذاب وتمسَّكوا بالإسلام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمرّ عليهم وهم يُعذَّبون ويقول: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة».
وهذا خَبَّاب بن الأرَتّ عُذِّب في الله وصَبَر على دينه، وكان من تعذيب المشركين له أن أوقدوا له نارًا وسَحَبوه عليها، فما أطفأها إلا شحمُ ظهره لما ذاب، كل ذلك وهو صابرٌ على دينه لا يتزحزحُ عنه قيد شعرة.
أيها المسلمون:
هذه نماذجُ من ثبات المسلمين على دينهم مع شدة الأذى والتعذيب، أضِف إلى ذلك: ما قدَّموه في سبيل حماية هذا الدين ونشره من جهادٍ بالأنفس والأموال، يتساقط منهم مئات الشهداء في المعارك وهم مُغتَبِطون بذلك فخورون؛ بل تركوا من أجله الديار والأموال، وهاجَروا فرارًا به مخافةَ أن يُخدَش أو يُدنَّس يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله، وما ذلكم إلا لما عَرَفوا في هذا الدين من الخير والسعادة، فتأصَّل حبُّه في قلوبهم حتى صار أحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وديارهم، حتى قال قائلهم: إذا عَرَض بلاءٌ فقدِّم مالَكَ دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدِّم نفسك دون دينك.
عباد الله:
فما بال كثير ممن يتسمَّون بالإسلام اليوم وينتسبون إليه ترخص عليهم تعاليمه عند أدنى طمع، فتراهم يستبدلونها بتعاليم الكفر؟
ما بالهم يرفضون التحاكُم إليه ويتحاكَمون إلى قوانين الكفر وأنظمته؟
ما بال الكثير من المسلمين يتشبَّهون بالكفار في زِيِّهم ولباسهم وكلامهم؛ بل وحتى في صفة أكلهم، فيحلِقُون لِحَاهم ويُغَذُّون شواربهم، ويُرسِلُون شعور رؤوسهم، ويُطِيلُون أظافرهم، ويلبَسون خواتيم الذهب ويأكلون ويشربون باليد اليسرى.
ما بال المسلم وابن المسلمين ومن نشأ في بيئة التوحيد وتحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، يذهب إلى بلاد الكفار فيشاركهم في شرب الخمور وأكل لحم الخنزير وفعل البغاء، ثم يعود إلينا متنكرًا لديننا وآدابنا الإسلامية، ويحاول أن يُحوِّل بلادنا إلى قطعةٍ من البلاد الكافرة التي قدِم منها؟ إنه شرُّ وافدٍ وشرُّ رائدٍ لقومه، ذهب ليتعلَّم التخصُّصات التي تحتاج إليها بلاده؛ لكنه عاد بلا دين ولا أخلاق؛ بل ولا علم مفيد، عاد بالقشور والرذائل، بعد أن تنكَّر للدين والفضائل.
إن كثيرًا من دول الغرب ممن يتعطَّشون إلى الإسلام إذا رأوا هؤلاء زهدوا في الإسلام ظنًّا أن هؤلاء يمثلونه، فصاروا من الذين يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
أيها المسلمون:
إن دينكم دين عظيم هو صلاح البشرية جمعاء، فلئن رخُص لديكم فلن يرخص لدى الذين ينشدون الحقيقة ويتلمَّسون أسباب النجاة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38 ].
إن دينكم يريد منكم الصدق والصبر والجَلَد والبذل في سبيله وصدّ الهجوم المُعادي له والأخذ على أيدي سفهائكم عن العبث بتعاليمه، وإلا فسيرحل عنكم إلى غيركم فتخسَرون الدنيا والآخرة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38 ].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآيات [المائدة: 54 ].